نسخة الموبایل
www.tabatabaey .com
(العمل التبليغي بين الأهمية و الحساسية)
رقم المطلب: 492 تاریخ النشر: 11 رمضان 1439 - 03:47 عدد المشاهدة: 1210
محاضرة » عام
(العمل التبليغي بين الأهمية و الحساسية)

 

(العمل التبليغي بين الأهمية و الحساسية)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

أصحابَ الفضيلةِ والسماحةِ، العلماءُ الأعلامُ، الأساتذةُ الكرامُ

سعادةَ سفير الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في دمشق.

السيدُ المستشارُ الثقافيُّ للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق.

السادةُ والسيداتُ.

تتعاقبُ الأيامُ وتَتَقَلَّبُ الليَّالي لِتمْضِيَ السِنُونَ بنا، تاركةً وراءَها ذكرياتٍ تَطيبُ استعادتُها، منذ أَنْ شرَّفَني اللهُ تعالى لأداء واجبِ الخدمة مُمَثَّلاً لسماحة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظله في هذه البلادِ الطيبةِ، وبجوار المرقد الطاهرِ لبطلةِ كربلاء عقيلةِ الطالبيينَ سيدتِنا زينبَ الكبرى سلام الله عليها. وَإِنْ أَنْسَ فَلَنْ أَنسى تلك اللحظاتِ المباركةَ التي أمضيتُها وأُمْضيِها بينَكُم وقد اجتمعتُم في مثل هذه الندوات- يا أصحاب الفضيلة والسماحة- وقد تشَّرفتم بتِحمُّل مسؤوليةِ تبليغ رسالة الله عز وجل التي تُشكَّل امتداداً لِما سار عليه الرسلُ والأنبياءُ والأئمةُ والسلفُ الصالحُ من العلماءِ مِمَّن قدَّموا الغاليَ والنفيسَ في هذا السبيل. فَيُشَرَّفُني أن أحَيّيْكم جميعاً بتحيةٍ مِلؤُها الاحترامُ والتقديرُ:

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"

اسمحوا لي في البداية أن أتقَّدم منكم بأزكى التهاني وأسمى التبريكات لمناسباتٍ عِشْنا أَجواءَها العاطِرةَ خلالَ الأَيامِ الماضيةِ من شهر شعبانَ المعظَّمِ ولا زالت نَفْحاتُها تَحُفنُّا بِأريجِها الفَوَّاحِ؛ ذِكرى مواليدِ الأنوارِ الإلهيّةِ الإمامَيْنِ الحسين والسجاد عليهما السلام وأبي الفضل العبَّاسِ وعليَّ الأكبرِ سلام الله عليهما، وِمِنْ تَمامِ السرورِ والسعادةِ أن تنعقدَ الندوةُ التبليغيةُ الثالثةُ لهذا العام 1439 ونحن على أعتاب ذكرى ميلادِ أمل المستضعفين وبقيةِ الله في الأَرَضين الإمامِ الحجة المهديَّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فيطيب لي أصالةً عن نفسي ونيابةً عن جميع من ساهم في تنظيم هذا الملتقى من معاوِنِي الأعزاءِ أن أُزْجِيَ أحرَّ التهاني بتلك المناسبات إلى مقام صاحب العصر والزمان (عج) ونائبِهِ بالحقَّ سماحةِ الإمام الخامنئيَّ دام ظله والمراجع العظامِ وإليكم جميعاً، سائلاً الباريَ عزَّ وجل أن يعيدَ علينا هذه المناسباتِ المَباركةَ وأمثالُها باليُمن والخير والبركات والنصرِ والسُّؤددِ.

وعملاً بالمأثور "من لَم يشكر المُنعمَ من المخلوقين لم يشكر الخالقَ" أُوَجَّهُ شكري وتقديري لكافَّةِ المشاركين الأعزَّاءِ حاضرين ومُحاضرين، وأُخُصُّ منهم ضيوفَنا الأكارمَ الذين تَجَشَّموا عناءَ السفر. والشُّكرُ موصول للجنودِ المجهولينَ من العاملين في مكتب الإمام الخامنئي دام ظله بسوريا ممَّن وصلوا الليلَ بالنهار مُتابَعةً وتنظيماً وتَوَاصُلاً وإعداداً في سبيلِ إِنجاح الندوة، فَبُورِكَت الجهودُ كلُّها، آملين أن تَخْرُجَ الندوةُ بالنتائجِ المُتَوَخَّاةِ التي نَصْبُو إِليها.

***

لقد سُعِدتُ كثيراً ممّا استمعتُ من كلمات، وما دار في الندوة من نقاشاتٍ بنَّاءةٍ، وما طُرِحَ فيها من أفكارٍ هادفةٍ، سنعمل على دراستها ومتابعتِها ضمن الإمكاناتِ المُتاحةِ إن شاء الله.

أَمّا كَلِمَتي التي أَعْدَدْتُ فَتَحمل عنوانَ " العمل التبليغي بين الأهمية والحساسيّة "

ولكن أجدُ نفسي غالباً في موقفٍ يتكرَّرُ معي دائماً في مثل هذه المواقف محكوماً بِضِيقِ الوقتِ من جهة وضرورةِ إيصالِ الفكرةِ بأبلغ بيانٍ من جهة آخرى.

وسأحاول لَمْلَمَةَ أَفكاري وصياغَتَها بعباراتٍ تبلّغُ بي ما أَبْغي في هذه العُجالةِ؛ فَرَتَّبْتُ كلمتي في محورين أوّلهُما:

أهمية العمل التبليغي. والثاني:حساسيةُ العمل التبليغي.

المحور الأول: أهمية العمل التبليغي.

لا يمكن استيعابُ أهمية أمر إلا بالإحاطة بموضوعه وإدراك  غاياته؛ فالطَّبُّ يكتسب مكانَتَهُ من دوره في علاجِ الأمراضِ والوقايةِ منها، والهندسةُ من دَوْرِها في عَمارةِ المُدُنِ وتنظيمِها العُمرانيَّ.

وَلمّا كان الإنسانُ أشرفَ مخلوقاتِ الله وخليفتَهُ في أرضِهِ، فقد حمّلهُ مسؤولياتٍ وفَرَضَ عليهِ تكاليفَ يؤدّي الإلتزامُ بها لبلوغ المقامِ الذي يستحق.

إلا أنّ الطريق محْفوفَةٌ بالمخاطر ومليئةٌ  بالكمائنِ و الأفخاخ منذ أن خلق الله آدمَ عليه السلام؛ إذ أَقسَمَ إبليسُ أن يَحُولَ بين أبناء آدم و النعيمَ المقيمَ في الجنة: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَکَ الْمُسْتَقِيمَ‌ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ.

نَاهيكَ عن أنَّ ما يجذب الطبعَ للدنيا كثيرةٌ، كالماء الجاري الذي يميل للانحدار، ويَتَطلبُ رفعُهُ إلى أعلى لكثيرِ عناءٍ و تَكَلُّفٍ. والتقوى والإيمانُ والإلتزامُ بشرع الله صعودٌ وارتقاءٌ، بينما الفسقُ والفجورُ والفساد وهبوطٌ وإخلادٌ إلى الأرض. وما أَسهلَ تحريكَ صخرةٍ و دَحْرَجَتَها من رأسِ جبلٍ بحركةٍ واحدةٍ إلى قرارةِ الوادي، وما أَشَقَّ رَفْعَها إليه إلا بآلاتٍ ومعدَّاتٍ ثقيلةٍ وكثيرِ عناءٍ. وما أَرّوَعَ القرآنَ الكريمَ حين خاطب رسولَه واصفاً ثِقلَ الرسالة التي حمَّلهاَ الله إياها بقوله:

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْکَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) ﴿المزمل‏، 5﴾

فکيف نستطيع الجمع بين تلك الرسالة الأِلهيةِ الثقيلةِ من جهةٍ و طبع النفس البشرية الأمارةِ بالسوء من جهة آخرى؟

هنا يأتي دورُ التبليغ كعاملٍ وسيطٍ يُقوّي جنودَ العقل و يَرَدعُ جنودَ الجهل، يُقرَّبُ قِيَمَ السماء من الأرض بأرقى أسلوبٍ يجعلُ البشرَ كما يصفهم القرآن الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‌ (3) ﴿البقرة، 3﴾

فيمتنع المؤمنُ عن الحرام مهما كان لذيذاً لينالَ ثوابَ الآخرةِ مع ما فيه من ثقل على النفس.

نعم إنّه التبليغ السليم الذي يدفع الشاب المؤمن لمقاومة الإغراءاتِ طمعاً باللذة الأخروية الخالدة و رفضاً للذةٍ دنيويةٍ زائلةٍ وهو يرى أقرانه يسلكون طريق الانحراف.

إنّه التبليغ الذي يجعل المرأة و الفتاة المؤمنة تتمسك بحجابها راضيةً بتعييرها بالتخلّف والرجعية، رَجاءَ الأجرِ والثوابِ في الآخرة.

ولولا تأثُّرُ هؤلاء المؤمنين بتبليغ الدين بشكل صحيح لما استقاموا على الصراط المستقيم أملاً بنعيم الأخرة التي أمنوا بها غيباً.

فالتبليغ في الحقيقة إعادةُ هَيْكَلَة للنفس البشريةِ تُؤَهَّلهُا للإِرتقاءِِ إلى أعلى المستويات والمقامات، وكأنَّه يَبُثُّ الروحَ فيها من جديد، لتنظر للحياة نِظرةً مختلفةً مِلُؤها النورْ، ما يَخلُقُ إنساناً صالحاً يهدي بنوره البشرَ للسعادة، وكأنّه يُحييها من جديد، يقول تعالى:

أَ وَ مَنْ کَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ کَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا (122) ﴿الأنعام‏، 122﴾

إذن، التبليغ عمليةُ تعليمٍ وتربيةٍ وتأهيلٍ، تسعى لتزكية النفوس والإرتقاء بالأفكار والعقول. ولا ريب أن التربية تقع في الأولوية يليها التعليم كما ورد في القرآن الكريم، إذ قُدَّمَت الأولى  على الثانية في ثلاث آيات من أربع:

·        رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِکَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ يُزَکِّيهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَکِيمُ‌ (129) ﴿البقرة، 129﴾

·        لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَکِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ‌ (164) ﴿آل‏عمران‏، 164﴾

·        هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَکِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ‌ (2) ﴿الجمعة، 2﴾

·        کَمَا أَرْسَلْنَا فِيکُمْ رَسُولاً مِنْکُمْ يَتْلُو عَلَيْکُمْ آيَاتِنَا وَ يُزَکِّيکُمْ وَ يُعَلِّمُکُمُ الْکِتَابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ يُعَلِّمُکُمْ مَا لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ‌ (151) ﴿البقرة، 151﴾

ولعل الحكمة من ذلك التأكيد على أهمية التربية وتزكية النفس في مسيرة تكامل البشر. كما أن ذكرَهما معاً يدلّ على العلاقة العُضْوَِّيةِ بينهما.  وما مَدَحَ اللهُ رسولهَ (ص) في كتابه إلا في ضوء البُعْدِ التربوي النابع من عَظَمة أخلاقِهِ، فقال تعالى:وَ إِنَّکَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ‌ (4) ﴿القلم‏، 4﴾

و کَمْ دَخَلَ الإسلامُ مناطق نائيةً من آسيا دون قتال، بل من خلال تجار مسلمين كسبوا قلوب سكانها بتبليغ الدين بأخلاقهم وتعامُلهِم الحسن.

وما أحْوَجَنَا اليومَ كمبلَّغين لنعود إلى تلك التعاليم التربوية الأخلاقية المعنوية ونُطبَّقُها في مهماتنا التبليغية، في ظل الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام، بعد أن شَوَّهَتْ صورَتَهُ ممارساتُ التكفيريين الدواعش ومن لَفَّ لَفَّهُمْ بدعمٍ استبكاريٍّ صهيونيٍّ. و تَتَأكَّد الحاجةُ عندما نُدرِك عمقَ أهداف الإسلام المحمدي الأصيل ورسالتَهُ العالميةَ الشاملةَ؛ حيث يقول سماحة الإمام الخامنئي دام ظله:

" إذا صحَّ القولُ بأنَّ شرفَ كلَّ فردٍ يرتبط بشرف أهدافه و غاياته فلا بُدَّ حينئذ من القول بأنّ أشرفها وأكملها هو تبليغ الدين لأن الهدف من تبليغه هو تزكية الناس ورقي أفكارهم. وهذا في حد ذاته من أهم الأهداف".

وما البصيرةُ التي طالما أكَّد و يُؤكُد سماحته عليها سوى ما ذكرنا في بيان أبعاد التبليغ.

وما يَحُزُّ في النفس أنَّها مفقودة عند بعض من يمارس العمل التبليغي بتقديم مصالحَ شخصيةٍ مؤقتةٍ على حسابِ مصالحِ الأمة والمجتمعِ مُتَناسين أنّ احتمال ثقل رِسالة التبليغ أهون من احتمال ثِقل عذاب يوم الدين.

المحور الثاني: حساسية العمل التبليغي

لقد تَبَيَّنَ لنا مدى أهمية تبليغ الدين كممارسةٍ جادّةٍ و مهمة حساسةٍ، تتوقف عليها مصائرُ كثيرٍ من البشر؛ فإنّ أدنى انحرافٍ يجر كوارثَ على المجتمع، فبدلاً من هداية الناس للجنة يتحول الأمر بالمُبلَّغ في هذه الحالة لدفع الناس للنار والعياذ بالله، مُنَفَّراً إياهم من الدين بَدَلَ تحبيبهم به، فتنتشر حالةُ من اِزْدِراءِ الدين بسبب هَفْواتِ أو أخطاءِ بعض العاملين في الشأن التبليغي إما سهواً او عمداً. من هنا يجب أن نؤكد على أنّ المُبلغَّ هو لسان والدين الناطقُ بِمَحاسِنِه، الذائدُ عن حِمَاهُ، والمُبَيَّنُ لِمَواطنِ الجَذْبِ فيه، والحائلُ دونَ الوقوعِ في فِخاخِ الشيطان وجنوده، فهو الذي وصفه الرسول (ص) بخليفته حين قال (ص):

" اللهم ارحم خلفائي، فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يُحيون سنتي ويعلمونها عباد الله".

إذ كم من محاضرة يُلقيها مبلَّغٌ مؤمنٌ بما يقول، ومُخلِصٌ لما يَدعو إليه، أَنفعُ للأمّة في نَيْلِ حقوقِهاً من فِرَقٍ عسكريةٍ كاملةٍ مُدَجَّجةٍ بالسلاح! ولنا في إمامنا الخميني (رض) أسوةٌ في عصرنا الحديث: فقد قاد قائد ثورة إسلامية عالمية أسْقَطَت عرش امبراطوريةٍ شاهنشاهيةٍ امتدت لأكثر من ألفّي عام، وما زال صداه يتردد في كل مكان حتى الآن. و لو لا أنه (رض) عاش آلامُ الأمة وآمالها، وبَحَثَ في ما يَسُرُّها ويُسيئها قولاً وعملاً وأخلاقاً، لما حقّق ذلك الإنجازَ.

فهل يدُرك المبلَّغ حساسيةَ مهمتِه، فيراقبَ تصرفاتهِ وحركاتهِ وسَكَناتِه، ونَمَطَ عيشِهِ وما يلبس و يأكل و يشرب ويتكلم و يتصرف أمام أَعْيُنِ الناس التي تراه في زِيَّ رسول الله (ص) و تتوقع منه ما تتوقع منه (ص)؟

 

صحيحٌ أنَّ  مثل ذلك التطلُّعِ من المبلَّغ قد يكون فوق طاَقتِهِ وليس مطلوباً منه ، ولكنّه واقعُ المجتمعِ الذي ينبغي على المبلَّغ رعايتَهَ وتَحَمُّلُ تَبِعاتِه ، فهو  "القول الثقيلُ" الذي ذكره الله تعالى في الآية التي تَلَوْتُ في المحور الأول ، وعلينا أن نَضبِطَ سلوكَنا على أساسه، فنحن أبناءُ هذا المجتمع، ونعمل على توضيح الحقائق للناس، لا إتخاذِ موقفِ عدم الأكتراثِ بما يتوقعون من المبلَّغ؛ ما يَفرِضُ على المبلَّغ أن يعيدَ حساباتِه  ويراجعَ نفسَه عندما يتناهى إلى سمعه سبُّ الله ورسولهِ من قبل بعض العوامّ والعياذ بالله، ويتساءل : هل قَصَّرتُ في شيءٍ من واجباتي حتى بَرَزَتْ هذه الظاهرة في مجتمعي ؟

عندما يشهد المبلَّغُ حالةَ الازدراءِ  برجُل الدين في المجتمع، فعليه أن يسأل نفسه : هل أتحمَّلُ مسؤوليةً في ذلك من خلال قولي وفعلي أو سلوكي؟

على المبلُغ الحقيقيَّ أن يَبْقُرَ علمَ الدين بقراً اقتداءً بالإمام الباقر (ع)  على قَدْر استطاعته، فيغوصَ في خفاياه، وُيَقلَّبَ مُعضلاتِهِ حتى يُحيط به فْهماً، ثم يَصيغَ ما تَوَصّلَ إليه بِأرقى بيانٍ، ويُبَلَّغَه بأحسن القول، كي يقطعَ الطريق أَمامَ الخرافاتِ والانحرافاتِ، فلا يَنسِبَ ما ليس مِنَ الدين له .

ومِنْ أَهَمَّ واجباتِ المبلَّغ تحديدُ الفئةِ التي يخاطبها ومستواها ليكلَّم الناسَ على قَدْر عقولهم . فلا شريحةَ على حسابِ أخرى ، إذ كم من خطاباتنا تُوَجَّهُ للرجال دون النساء، بل يكادُ يَخْفُتُ دَوْرِ النساءِ في العمل التبليغي كمخاطَباتٍ أو محاضِراتٍ، مع ما لَهُنَّ من دَوْرٍ جَوهريٍ في إصلاحِ المجتمعِ وبنائِهِ لمسؤوليتهنّ الكبرى في تربية الأجيال وتزكيتها.

فلا ريب أنّ المرأةَ هي العمودُ الفقري لنواة المجتمع وهي الأسرة، ووراء كلّ رجل عظيم امرأةّ تَرَبَّى في حجرها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى مكانه المرأة ودورِها حين قَدَّمَ نماذج لنساء كقدوات للمؤمنين جميعاً،

منها إمرأة فرعون: حيث يقول الله تعالى:

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَکَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‌ (11)  ﴿التحريم‏، 11

ومنها مريم ابنة عمران و ام عيسى.

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَ کَفَّلَهَا زَکَرِيَّا کُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَکَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَکِ هٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‌ (37) ﴿آل‏عمران‏، 37﴾

واصفاً اياها بالمصطفاة و الطاهرة من كلّ الوان الرجس:

وَ إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِکَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفَاکِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ‌ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّکِ وَ اسْجُدِي وَ ارْکَعِي مَعَ الرَّاکِعِينَ‌ (43) ﴿آل‏عمران‏، 42﴾ ﴿آل‏عمران‏، 43﴾

ومنها حواءُ ومنها امرأة لوط ومنها سارة وهاجر زوجتا إبراهيم ومنها بنات شعيب، و أمُ موسى و أخت موسى.

و على رأس هؤلاء وسيدتهن فاطمة الزهراء بنت محمد  وزوجه علي وأم الحسن والحسين و زينب وأم كلثوم، والتي انزل الله في حقها سورةَ الكوثر حتى يباهيَ أبوها بها أمام من افتخر باولاده عليه.

فكانت الزهراء (ع) نموذجَ المرأة القدوة التي يَدينُ لها الرسول (ص) بخلوده و بقاءِ رسالتِه، ولم ينطق عن الهوى حين وصفها بأمَّ أبيها.

ألم تكن فاطمة هي المدرسةُ التي خَرَّجَتْ حسناً وحسيناً؟

ألم تكن فاطمة هي التي دافعت عن بقاءِ الإمامة واستْشهِدَت في سبيل ذلك بعد وفاة الرسول (ص)؟

ألم تُكمِل ابنتُها زينبُ (ع)  مسيرةَ أمَّها في استمرار رسالة أخيها الحسين (ع) وفضح ممارساتِ بني أمية في مسيرة الأسر والسبي، وهي التي كانت قد ضحَّت بأبنائها من قبلُ في كربلاء فداءً للإسلام؟

ألَمَ تُتابع بناتُ زينبَ و الزهراءِ تلك المسيرةَ في عصرِنا وأيامنِا هذه من خلال تقديم أبنائها لمَذبَحِ الشهادة والجهاد كي يمنعوا أتباعَ بزيدِ العصرِ من كتم صوت الحسين (ع) المتمثل في خط المقاومة والإباء؟

ومن هنا يحاول أعداءُ الإسلام ضربَ مجتمعاتنا المقاومِةِ بإِستهداف المرأة فيها عبَر حملاتهِمِ الإعلامية حتى تبتعد عن وظيفتها في تربية الأجيال، وتلاحِقَ صَيحْاتِ الموضةِ والمسلسلاتِ الرخيصِة، فعلى المبلَّغين التأكيدَ على أهمية رسالةِ المرأة التربوية في الأسرة والمجتمع، من خلال الاستشهاد بسيرة المعصومين (ع) وقصص الصالحات التي سأختم كلامي بنموذج منها:

روي أنه كان يعيش في مكة رجل فقير متزوج من امرأة صالحة.

قالت له زوجته ذات يوم: يا زوجي العزيز ليس عندنا طعام نأكله ولا ملبس نلبسه؟ فخرج الرجل إلى السوق يبحث عن عمل، بحث و بحث و لكنه لم يجد أي عمل، وبعد أن أعياه البحث، توجه إلى بيت الله الحرام، و صلى هناك ركعتين وأخذ يدعو الله أن يفرج عنه همه .

وما أن أنتهى من الدعاء وخرج إلى ساحة الحرم وجد كيساً ، التقطه وفتحه فإذا فيه ألف دينار .

ذهب الرجل إلى زوجته يفرحها بالمال الذي وجده لكن زوجته ردت المال وقالت له: لابد أن ترد هذا المال إلى صاحبه فإن الحرام لا يجوز التقاط لقطنه ، وبالفعل ذهب إلى الحرم ووجد رجل ينادي : من وجد كيساً فيه ألف دينار ؟ فرح  الرجل الفقير ، وقال أنا وجدته ، خذ كيسك فقد وجدته في ساحة الحرم ، وكان جزاؤه أن نظر المنادي إلى الرجل الفقير طويلاً ثم قال له :خذ الكيس فهو لك ، ومعه تسعه آلاف أخرى ، استغرب الرجل الفقير ، وقال له : لما؟

قال المنادي :لقد أعطاني رجل من بلاد الشام عشرة آلاف دينار ، وقال لي : أطرح منها ألف في الحرم ، ثم ذاد عليها، فإن ردها إليك من وجدها فأدفع المال كله إليه فإنه أمين . وها أنا قد قطعت ما قاله لي و دفعت المال اليك.

أيها الأخوة والأخوات :

 هذه القصة سواء كانت واقعية أو خالية فهي مصداق ما قال الله تعالى :( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) .

فبناه على ذلك لا بد لنا من أن نتوجه إلى دور المرأة وتأثيرها في تربية المجتمع البشري ونتوجه إلى النساء في التبليغ الديني . ونؤكد على دور المرأةِ في توفيرِ الظروفِ الأُسَرِيَّةِ المساعِدة لزوجها المبلَّغ أيضاً.

في الختام ، أجدد شكري وترحيبي بكم جميعاً كما أقدر عاليا مشاركتكم جميعاً

سائلاً الله تعالى أن يجعل ذلك كله في ميزان حسناتكم .

  (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )

وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله


Share
* الاسم:
* البرید الکترونی:
* نص الرأی :
* رقم السری: